ثواب الإيمان و التقوى
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين منْ رحمته و يجعل لكم نوراً تمشون به و يغفر لكم و الله غفور رحيم } .سورة الحديد الاية 27
{ يا أيها الذين آمنوا } : المراد بهم هذه الأمة ، فيكون قوله : { اتقوا الله و آمنوا برسوله } يعني اثبتوا على الإيمان ، و لا تبدِّلوا الإيمان ، لأنَّ الإيمان قد حصل ، حيث قال : { يا أيها الذين آمنوا } ، فيكون المعنى { يا أيها الذين آمنوا } بقلوبكم { اتقوا الله } بجوارحكم ، { و آمنوا برسوله } أي : حقِّقوا الإيمان و اثبتوا عليه ، و ليس كل مَنْ آمنَ يكونُ مؤمناً حقّا ، و هذا هو ما يعنيه العلماء بقولهم ، هذا نفي كمال الإيمان مثل قوله صلى الله عليه و سلم : ( لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ) 1 ، ليس المراد نفي مطلق الإيمان ، بل نفي الإيمان المطلق الكامل .
و قد زعم بعض المفسرين أنَّ هذه الآية في أهل الكتاب ، لأنه قال : { و آمنوا برسوله } ، و لكنَّ هذا قول ضعيف جدًّا ، و لا يمكن أنْ ينادي الله عز و جل أهل الكتاب و هم كفرة بوصف الإيمان أبداً ، لا يمكن أنْ يكون المراد بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } يا أيها اليهود و النصارى ، لأنهم حين نزول القرآن إذا بقوا على يهوديتهم و نصرانيتهم ليسوا بمؤمنين ، و المراد برسوله هنا محمد صلى الله عليه و على آله و سلم ، و الإيمان بالرسول صلى الله عليه و سلم يتضمن الإيمان بجميع الرسل ، كما قال عز و جل : { آمنَ الرسولُ بمآ أنزل إليه منْ ربِّه و المؤمنون كلٌّ آمنَ بالله و ملائكته و كتبه و رُسُله لا نفرِّق بين أحد منْ رُسُله } يعني في الإيمان به ، لا في الاتباع ، ففي الاتباع نفرِّق بين الرسل ، فتبع منهم محمداً صلى الله عليه و سلم ، لكن الإيمان كلهم على حد سواء ، نؤمنُ بأنهم رُسُلُ الله حقًّا .
{ يؤتكم كفلين منْ رحمته } أي : نصيبين منْ رحمة الله ، و لهذا مثل النبي صلى الله عليه و على آله و سلم هذه الأمة بالنسبة لما قبلها كرجل استأجر أجراء ، منهم طائفة منْ أول النهار إلى نصف النهار ، و طائفة منْ نصف النهار إلى العصر ، و طائفة منَ العصر إلى غروب الشمس :
فالطائفة الأولى أعطى كل واحد منهم ديناراً ، و الطائفة الثانية أعطى كل واحد ديناراً ، و الثالثة أعطى كل واحد دينارين .
فاحتج الأولون : لماذا تعطي هؤلاء دينارين ، و هم أقل منا عملاً ؟ فأجابهم بقوله : ( هل نقصتكم منْ أجركم شيئاً ) ؟ قالوا : لا ، قال : ( ذلك فضلي أوتيه مَنْ أشاء ) 2 ، فالحمد لله هذه الأمة لها مثل أجر الأمم السابقة مرتين .
{ و يجعل لكم نوراً تمشون به } ، أي : أنكم إذا آمنتم و حقَّقتم الإيمان مع التقوى يُثبكم ثوابين { و يجعل لكم نوراً تمشون به } أي : علماً تسيرون به إلى الله عز و جل على بصيرة ، و في هذا دليل على أنَّ التقوى منْ أسباب حصول العلم ، و ما أكثر الذين ينشدون العلم ، و ينشدون الحفظ ، و يطلبون الفهم ، فنقول : إنَّ تحصيله يسير ، و ذلك بتقوى الله عز و جل و تحقيق الإيمان ، الذي هو موجب العلم ، فاعمل بما علمتَ يحصل لك علم ما لم تعلم ، فتقوى الله عز و جل منْ أسباب زيادة العلم و لا شك ، و لهذا قال : { و يجعل لكم نوراً تمشون به } أي : تسيرون به ، أي : بسببه سيراً صحيحاً يوصلكم إلى الله عز و جل : { و يغفر لكم } أي : يسترها عليكم ، و يعفو عنكم ، فلا عقاب و لا فضيحة { و الله غفور رحيم } أي : ذو مغفرة و رحمة ، كما قال الله عز و جل : { و إنَّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } ، و قال عز و جل : { و ربُّك الغفور ذو الرحمة } فالغفور يعني ذا المغفرة ، و الرحيم يعني ذي الرحمة ، و ذلك أنَّ الإنسان محتاجٌ إلى مغفرة ذنوب وقعت منه ، و إلى رحمة تسدِّده و يتجنَّب بها المعاصي ، و يهتدي إلى التوبة إنْ عصى .
...........................
1- أخرجه البخاري ، كتاب الإيمان ، باب منَ الإيمان أنْ يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ( رقم 13 ) ، و مسلم ، كتاب الإيمان ، باب الدليل على أنَّ منْ خصال الإيمان أنْ يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه منَ الخير ( رقم 45 ) .
2- أخرجه البخاري ، كتاب مواقيت الصلاة ، باب مَنْ أدرك ركعةً منَ العصر قبل الغروب ( رقم 557 ) .
تفسير ابن عثيمين رحمه الله تعالى